فصل: قوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (227):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (226):

ليس في نظم القرآن ما يدل على الجماع، ولا على الحلف على مدة معلومة، وإنما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}.
واختلفت تصرفات العلماء في ذلك.
فمنهم من جرى على العموم، ومنهم من خص.
فممن خص ذلك علي وابن عباس، صارا إلى أنه لو حلف لا يقربها لأجل الرضاع، لم يكن مؤليا، وإنما يكون مؤليا إذا كان على وجه الغضب.
ومنهم من لم يفصل بين اليمين المانعة من الجماع، والكلام والاتفاق، ولا بين الرضا والغضب، وهو قول ابن سيرين.
والأكثرون على أنه لا يعتبر قصد المضارة، حتى لو آلى في حالة رضاها، كان به مؤليا.
والأولون يقولون: ما قصد حقها ولا مضارتها.
وفي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} ما يدل على اعتبار قصد الإضرار.
فالأكثرون اعتبروا اليمين على ترك الجماع.
وقال الشافعي: إذا آلى أربعة أشهر ومضت المدة لم يكن مؤليا.
وأبو حنيفة يوقع به الطلاق، وإن لم يبق الإيلاء بعده، لأنه رأى أن قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يدل على ما قاله.
ولكن الشافعي يقول: قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} {تَرَبُّصُ} يدل على أن مدة الأربعة أشهر حق له خالص، فلا يفوت به حق له، ولا يتوجه عليه مطالبة، أنه أجل مضروب له.

.قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (226):

والفيء في اللغة الرجوع، قال اللّه تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} أي ترجع إلى أمر اللّه.
وعند ذلك قد يظن الظان: أن ظاهر اللفظ، يدل على أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار، ثم قال: قد فئت إليك، وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين، أن يكون قد فاء إليها، سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا.
وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا أمكنه الوصول إليها، لم يكن فيؤه إلا الجماع.
وأبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض، أو بينه وبين زوجته المؤلي منها، مسيرة أربعة أشهر وهي رتقاء أو صغيرة، أو هو مجبوب أنه إذا فاء إليها بلسانه، ومضت المدة والعذر قائم، فذلك في صحيح.
والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه، ووجه قوله: أنه إذا قال القائل: واللّه لا أجامع فلانة، فلا يكون حانثا بقوله أجامعك، وإنما يكون حانثا بما يكون منه مخالفا، وإنما يكون مخالفا بما يكون به حانثا، ثم لا يكون حانثا بمجرد القول، وكذلك لا يكون قد فاء بمجرد قوله: وإنما هو وعد الفيئة، إذ لو كان قد فاء حقا لما احتاج بعده إلى تحقيق مقتضى قوله: بالجماع، وهذا بين.
نعم اختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى.
ففي قول: لا إيلاء له.
وفي قول: يصح إيلاؤه ويفيء باللسان.
والأول أصح وأقرب إلى مقتضى الكتاب، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين. والفيء بالقول لا يسقطه. فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث، بقي حكم الإيلاء.

.قوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (227):

وذلك يقتضي أن لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة على ما قاله قوم، لأن مضي المدة لا يكون عزيمة على الطلاق، وإنما عزيمة الطلاق ما يتوقف على قصده.
فأما حكم اللّه تعالى الحاصل بمضي المدة، فلا يصح العزم عليه، فلا يقال: عزموا على مضي الشهر، أو غروب الشمس، أو طلوعها.
ومن فوائد هذه الآية:
دلالة عمومها على صحة إيلاء الكافر والمسلم، سواء كان الإيلاء بعتق، أو طلاق، أو صدقة، أو حج، أو يمين باللّه.
وأبو حنيفة يقول: لا يصح من الكافر ما كان بالتزام صدقة أو حج، ويصح ما كان بطلاق، أو عتاق، أو حلف باللّه، وإن لم يلزمه بالحلف باللّه عز وجل شيء، وصحح الإيلاء ممن لا يلتزم بالوقاع شيئا، يتوقى الوقاع لأجل ذلك الأمر، مع أنه لو آلى بطلاق زوجته، أو عتاق عبده، فمات العبد قبل مضي المدة، بطل الإيلاء، لأنه لا يخشى التزاما، فكذلك قياس قوله أن لا يصح منه الإيلاء إذا حلف باللّه، لأنه لا كفارة عليه بالمخالفة.
واحتج محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث، بأن قال: إنه لما حكم اللّه تعالى للمولى بأحد حكمين، من فيء أو عزيمة للطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث، لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق، لأنه إن حنث فلا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء، لم يكن مؤليا، وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكره اللّه تعالى، وذلك خلاف الكتاب.
وهذا غير صحيح لأن اللّه تعالى إنما أبقى حكم الإيلاء إذا بقيت المضارة، وإنما تبقى المضارة إذا كان يتوقع التزام أمر بالوقاع، فشرط بقاء الإيلاء بقاء حكمه، فإذا قدمه زال هذا المعنى، كما يزول بموت العبد المحلوف على عتقه، أو المرأة المحلوف على طلاقها، وليس يقتضي ذلك مخالفة الكتاب بل يطابق معناه إذا تأمل.

.قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (228):

واختلف أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعلماء السلف في الثلاثة:
فقال قوم: الثلاثة من الحيض، فما لم تغتسل المرأة من الحيض فزوجها أحق بها.
وقالت عائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها.
فالثلاثة إذا من الأطهار.
وأما اسم الأقراء فيتناول الحيض والطهر جميعا.
واختلفوا في كونه حقيقة فيهما، أو مشتركا اشتراكا لا يظهر رجحان أحد المعنيين على الآخر.
وقال قوم: هو حقيقة في الحيض ومجاز في الطهر، وذلك بحسب النظر في موضع الاشتقاق، واختلف فيه:
فمنهم من قال: القرء من الوقت، وعلى ذلك شواهد من اللغة.
وقال آخرون: هو من الجمع والتأليف، وعلى ذلك شواهد.
فإن كانت حقيقته الوقت، فقد ظن بعض أصحاب أبي حنيفة أن الحيض أولى به، لأن الوقت في الأصل إنما كان وقتا لما يحدث فيه، والحيض هو الحادث، وليس الطهر شيئا أكبر من عدم الحيض، وزوال العارض، والرجوع إلى ما كان في الأصل، فكان الحيض أولى بمعنى الإسم.
وهذا غير صحيح، فإن الحيض والطهر وصفان يعتوران على المرأة، ولكل واحد منهما وقت معلوم أقله وأكثره.
وهم يقولون: لكن الطهر إنما يعلم بغيره لا بنفسه، فإن الطهر لا نهاية لأكثره إذ هو عدم الحيض، وإنما يعلم بوجود الحيض.
قالوا: وإن كان القرء اسما للضم والجمع، فهو أولى بالدم المجتمع.
ولا يتيقن كونه حالة الطهر، إذ لا يتعلق به حكم، وليس يبين لنا أن الدم يجتمع في حالة الطهر، بل يجوز أن يجتمع في حالة الحيض ويسيل فيه، فلا مستند لهذا القول.
وزعموا أن حد الحقيقة وجد في الحيض، لأن اسم القرء لا ينتفي عنه أصلا، ولا يتحقق ذلك في الطهر، لأنه يوجد الطهر ولا يسمى قرءا بحال مثل طهر الآيسة والصغيرة، فيظهر أن الطهر سمي قرءا لمجاورته للحيض، فالحيض بذلك أولى.
وادعوا تطرق المجاز إلى قولنا من حيث اللغة من وجهين، ومن وجه ثالث، وهو أن مقتضى قولنا الاكتفاء بقرءين وبعض الثالث، وإطلاق اسم الجمع على شيئين وبعض الثالث مجاز على خلاف الحقيقة، وإنما يعلم ذلك بدليل مثل حمل أشهر الحج على شهرين وبعض الثالث، وإذا جعل للقرء بدل، وهو الأشهر، لا جرم كانت الأشهر ثلاثة تامة من غير نقصان ولا حطيطة، فليكن الطهر كذلك.
والذي توجه لأصحاب الشافعي على هذه الكلمات: أن الذي ذكره هؤلاء من مواضع الاشتقاق، لا يصح التعويل عليه في هذا الباب، فإنه لو قدر التصريح بمحال الاشتقاق على ما قالوه، لم ينتظم الكلام.
وإذا كان الإسم مشتقا من شيء، فيجب أن يكون بحيث لو صرح بموضع الاشتقاق يستقيم معنى الكلام، مثل قول القائل في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}.
والزاني مشتق من الزنا، فلو ذكر موضع الاشتقاق وعلق عليه الحد، يستقيم معنى الكلام.
وهاهنا: إن كان اشتقاق القرء من الوقت، فإذا ذكر الوقت في نفسه، أو الضم بلفظ الثلاث، لم يكن الكلام مستقيم النظم، فإنه لو قال: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، أو ثلاثة اجتماعات، ولم يضف الوقت إلى شيء، والاجتماع إلى شيء، لم يصح معنى الكلام في إرادة الحيض والطهر جميعا.
نعم إنما يستقيم النظر إلى موضع الاشتقاق من وجه آخر، وهو أن يجعل القرء مشتقا من الانتقال من حال إلى حال، فعل هذا يستقيم الكلام، إذا ذكر موضع الاشتقاق، فإنه إذا قيل: معنى الكلام:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أدوار، أو ثلاثة انتقالات، فهي متصفة بحالتين فقط.
فتارة تنتقل من طهر إلى حيض.
وتارة تنتقل من حيض إلى طهر.
فيستقيم معنى الكلام في دلالته على الحيض والطهر جميعا، فيصير الإسم مشتركا.
أو يقال: إذا ثبت أن القرء هو الانتقال، فخروجها من حيض إلى طهر غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به.
وقيل: إنه ليس طلاقا على الوجه المأمور به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال.
فإذا كان الطلاق في الطهر سببا، فتقدير الكلام عدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها:
هي الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، لكن عرفنا بدليل آخر، أن اللّه تعالى لم يرد من حيض إلى طهر، واللفظ دل على الانتقال، والانتقال محصور في الحيض والطهر، فإذا خرج أحدهما عن كونه مرادا، بقي الآخر، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات: أولها: الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة، إذا كان الطلاق في حالة الطهر، فلا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما، وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي.
وأكثر ما يرد على هذا الكلام وجوه:
منها: أن ذلك خلاف ما قالته عامة العلماء، من أن القرء طهر أو حيض، وذلك إحداث قول ثالث.
وهذا لا وجه له، فإن القرء حقيقة في الانتقال، ثم اختلف العلماء في المراد من الانتقال: فإنه متردد في اللغة بين الحيض والطهر، فأما أن يكون القرء اسما لنفس الطهر، أو اسما لنفس الحيض حقيقة فلا، والدليل على موضع الاشتقاق قولهم: قرأ النجم: إذا طلع، وقرأ النجم إذا أفل، بمعنى تبدل الأحوال عليه.
نعم وضع اللغة يقضي أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ومن الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا، ومن الطهر الثاني إلى الحيض الثاني قرءا ثالثا، وتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثالثة، غير أن تحريم الطلاق في خاصة الحيض دل على أن ذلك الانتقال- وهو من الحيض إلى الطهر- ليس مرادا بالآية.
ويمكن أن يذكر في ذلك شيء لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض، إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فحيضتها علم على براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل من أعقاب حيضتها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمدح العرب بحبل نسائهم في حالة الطهر، ومدحت عائشة رسول اللّه بقول تأبط شرا:
ومبرأ من كل غبر حيضة ** وفساد مرضعة وداء مغيل

تعني أن أمة لم تحمل به في الحيضة الثانية.
ومن أجل ذلك كان الاستبراء بحيضة، لأن المسبية لا تعرف حبلها فتستبرئ بحيضة، فإذا حاضت علمت براءة رحمها، إلا أن الاحتياط في العدة أكثر، فلم يكتف بدلالة واحدة دون الدلالات الثالثة، فيحصل من مجموعها ما يقرب من اليقين، أو ما يتضاعف به الظن ويقوى، وإذا تقرر أن الأمر كذلك فالانتقال من الطهر إلى الحيض، جعل قرءا معتبرا لهذا المعنى.
فإن قالوا: فإذا كان الانتقال من الطهر إلى الحيض جعل قرءا، لدلالة ذلك الانتقال على براءة الرحم، فذلك الانتقال لم يدل على براءة الرحم لأجل الطهر، وإنما دلالته للحيض، فالحيض هو الأصل في الدلالة ومتى كان هو الأصل في البراءة والدلالة عليها، فهو أولى بأن يجعل أصلا في العدة من الطهر، فإن الطهر يقارن الحمل، فكيف يقع به الاستبراء؟ وإنما يقع الاستبراء بما ينافيه وهو الحيض، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحمل.
وربما قرروا ذلك فقالوا: إن الحيضة الثانية اعتبرت احتياطا، لأن في التكرار زيادة دلالة على البراءة.
فلا جرم؟ قيل إن الاستبراء يكتفي فيه بحيضة واحدة، ويعتبر في العدة الكاملة زيادة عدد، لزيادة الدلالة على قدر رتبة العدة، فإذا تعذر ذلك، وقيل: الثلاثة هاهنا مثل الواحدة في الاستبراء، فليكن العدد المعتبر في العدة الكاملة من جنس ما اعتبر في الاستبراء، وليكن العدد عددا يزيد في الدلالة من جنس الأصل، والطهر لا دلالة فيه، فاعتبار العدد من الطهر لا معنى له، فعدد الثلاثة يجب أن يوجد من الحيض، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة فليقل: يعتبر تمام دلالة هذه الثالثة، كما دلت الحيضتان من قبل، فاعتبار العدد من الطهر الذي لا دلالة لأصله مما وجه له.
وربما قالوا: الحمل إذا ظهر كان أولى من الحيض، لأن الوضع أقوى من الحيض، فتفاوت ما بين الحيض والطهر، كتفاوت ما بين الحيض والحمل، ثم الحمل أصلا فليكن الحيض أصلا.
الجواب: أن الذي قالوه ليس كلاما في مقتضى اللفظ، وإنما هو قياس في معاني الفقه، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في اللفظ، وهو أن اللّه تعالى إذا قال: يتربصن ثلاثة انتقالات، وعرفنا أنه لم يرد به الانتقالات كلها من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض، فإن ذلك يزيد على الثلاثة، فعرفنا أنه إنما عنى به الانتقال الذي هو من الطهر إلى الحيض.
فهذا ما فهمناه من اللفظ، وجاز مع ذلك أن يقترن بالعدة قصدان وراء براءة الرحم، كالاختلاف بالحرية والرق، ووجوبها إلى سن اليأس، في حق التي انقطع حيضها لعلة، وغير ذلك من المسائل، فإذا ثبت ذلك لم يرد عليه كل ما قالوه.
ودل على ما قلناه، أن اللّه تعالى قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم لعمر حين طلق ابنة امرأته وهي حائض: مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم يجامعها وليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر اللّه أن تطلق لها النساء.
وذلك إشارة إلى الطهر فدل أن العدة الطهر، وأمر بإحصاء العدة عقيب الطهر، فليكن المحصي بقية الطهر.
وأبو حنيفة لا يرى ذلك أصلا، ولا يحصي عقيب الطلاق شيئا.
وقوله تعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ} لا يجوز أن يريد به عدة ماضية قبل الطلاق، كما يقال: «صوموا لرؤيته» أي لرؤية ماضية.
فإن قيل: الطلاق ليس بعدة بالاتفاق، ولا يخطر ببال عاقل أن يقول: قوله عليه السلام لعمر: «حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق فتلك العدة»، معناه: فتلك العدة الماضية، أعني الحيضة الماضية، أمر اللّه تعالى أن يطلق لها النساء، فإذا كان الطلاق في الطهر والانتقال منه إلى الحيض، فتقدير الكلام:
إذا طلقتم النساء يتربصن بعد الطلاق السنى البدعي ثلاثة انتقالات:
أولها: الانتقال مما سن الطلاق فيه، وذلك لا يكون إلا الطهر، وهذا بين ظاهر في تحقيق مذهب الشافعي من معنى الآية.
فإن قيل: العدة وأحكامها ثابتة في حالتي الطهر والحيض، فما معنى قوله تعالى: {لعدتهن}؟
قيل: العدة مأخوذة من العد، فكأنه تعالى قال: فطلقوهن لزمن بعد ذلك من العدة، وذلك الطهر، فإن عدد الثلاث مأخوذ منه وهذا بين.
قالوا: فالمرأة قبل الدخول يجوز طلاقها في الحيض، فكيف يصح مطلق الآية على هذا التأويل؟
الجواب: أن معنى الكلام: إذا طلقتم النساء ذوات العدة، فطلقوهن لعدتهن.
قالوا: فإذا طلقها في طهر جامعها فيه، فبقية الطهر محسوبة، وإن لم يكن الطلاق سنيا.
الجواب: أن ذلك مخصوص من هذا العموم بدليل، وذلك لا ينافي دلالة اللفظ على ما تعلقنا به، وعلى أن في حق التي جومعت في طهرها، وإنما خرج الطلاق عن كونه سببا لوجود ما يحتمل خروج الطهر به، عن أن يكون عدة تحصى بأن يبين حملها، حتى لو كانت آيسة لم يحرم طلاقها في طهر جامعها فيه.
ثم قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وإن كان عاما في حق المنكوحة الحرة، والمنكوحة الأمة، ولكن الإجماع انعقد على أن عدة الأمة المنكوحة على النصف فتركناه لذلك.